![]() |
| هل زُوّر التاريخ العلمي لصالح الغرب؟ |
هل زُوّر التاريخ العلمي لصالح الغرب؟
حين يُكتب التاريخ بأقلام المنتصرين
في عالم تُهيمن فيه السرديات الغربية على مناهج التعليم، يبدو أن التاريخ العلمي كما نعرفه ليس سوى نسخة منقّحة، اختيرت بعناية لتخدم مصالح حضارية معينة. فهل فعلاً بدأ العلم الحديث في عصر النهضة الأوروبية؟ أم أن جذوره تمتد أعمق، إلى حضارات أُقصيت عمدًا من المشهد؟
هذا المقال ليس مجرد استعراض تاريخي، بل هو تفكيك سردي وتقني لمنظومة التحيّز التي أعادت تشكيل ذاكرة البشرية العلمية. سنخوض رحلة تحليلية تكشف كيف تم تهميش إنجازات العلماء المسلمين والشرقيين، وكيف أُعيدت صياغة مفاهيم علمية لتُناسب سردًا غربيًا مهيمنًا، في تجاهل صارخ للعدالة المعرفية.
لماذا يُهمنا هذا اليوم؟
لأن السردية العلمية التي نتلقاها تشكّل وعينا وموقعنا في العالم. حين يُهمّش تاريخنا العلمي، يُهمّش دورنا في الحاضر والمستقبل. إعادة قراءة هذا التاريخ ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة استراتيجية لاستعادة الثقة والهوية المعرفية.
كيف تُصنع السرديات العلمية؟
المناهج التعليمية كأداة هيمنة
منذ اللحظة الأولى التي يدخل فيها الطالب إلى صف العلوم، يُقدَّم له تاريخٌ يبدأ غالبًا بجاليليو ونيوتن، مرورًا بأينشتاين، دون أي ذكر يُذكر لابن الهيثم أو الخوارزمي أو البيروني. هذه ليست صدفة، بل نتيجة منظومة تعليمية صُممت لتُرسّخ مركزية الغرب في سردية التقدم العلمي.
المناهج الغربية تُصاغ بطريقة تُبرز الاكتشافات الأوروبية وتُهمّش غيرها، مما يخلق تصورًا زائفًا عن أصل العلم، ويُرسّخ فكرة أن الحضارات الأخرى كانت مجرد ناقلة، لا مُنتجة.
الجوائز العلمية كأداة سياسية
جائزة نوبل، على سبيل المثال، تُعتبر ذروة الاعتراف العلمي، لكنها نادرًا ما تُمنح لعلماء من العالم الإسلامي أو الشرقي، رغم وجود إنجازات تستحق الاعتراف.
يُستخدم نظام الجوائز العلمية كأداة لتكريس صورة معينة عن "من يستحق أن يُعتبر عالمًا"، مما يُعيد إنتاج التحيّزات الحضارية في قالب أكاديمي.
لماذا يُهمنا هذا اليوم؟
لأن المناهج والجوائز العلمية لا تزال تُستخدم لتحديد من يُعتبر "مؤهلاً" للابتكار. إذا لم نُراجع هذه الأدوات، سنبقى خارج دوائر التأثير، مهما كانت إنجازاتنا. فهم آليات التحيّز هو الخطوة الأولى نحو كسرها.
راجع:
العلماء المسلمون الذين غيّروا العالم
الخوارزمي – مؤسس علم الجبر
في القرن التاسع الميلادي، ظهر محمد بن موسى الخوارزمي في بغداد، واضعًا أسس علم الجبر في كتابه الشهير "المختصر في حساب الجبر والمقابلة". هذا الكتاب لم يكن مجرد تجميع للمعادلات، بل كان ثورة في التفكير الرياضي، حيث فصل الجبر عن الهندسة، وابتكر طرقًا لحل المعادلات التربيعية والخطية.
ورغم أن كلمة "Algorithm" مأخوذة من اسمه، إلا أن المناهج الغربية نادرًا ما تُشير إليه، بل تُنسب مفاهيم الجبر لاحقًا إلى علماء أوروبيين مثل "فييت" و"ديكارت"، متجاهلين أن الخوارزمي سبقهم بقرون. هذا التهميش ليس مجرد سهو، بل جزء من سردية تُعيد إنتاج مركزية الغرب في العلم.
ابن الهيثم – رائد المنهج العلمي
الحسن بن الهيثم، المعروف في الغرب بـ "Alhazen"، يُعتبر من أوائل من طبّقوا المنهج العلمي التجريبي. في كتابه "المناظر"، درس الضوء والرؤية بطريقة تجريبية دقيقة، مستخدمًا التجربة والملاحظة والاستنتاج، قبل أن يُولد نيوتن بقرون.
ابن الهيثم أثبت أن الضوء يأتي من الأجسام إلى العين، لا العكس، وهو ما كان يخالف النظريات اليونانية السائدة آنذاك. ومع ذلك، يُنسب الفضل في فهم طبيعة الضوء غالبًا إلى نيوتن، دون الإشارة إلى الإرث العلمي الذي مهّد له الطريق.
البيروني وابن سينا – فيزياء وفلك وطب
أبو الريحان البيروني وضع نظريات في الجاذبية، الكثافة، والسرعة، ودرس حركة الكواكب بدقة مذهلة. أما ابن سينا، فكان رائدًا في الطب، وكتابه "القانون في الطب" ظل يُدرّس في أوروبا لقرون، لكنه اليوم يُذكر كـ"فيلسوف شرقي" أكثر من كونه عالمًا مؤثرًا.
هذا التغييب المتعمد لأدوارهم العلمية يُعيدنا إلى سؤال جوهري: هل يُكتب التاريخ العلمي بناءً على الإنجاز؟ أم بناءً على من يملك سلطة السرد؟
لماذا يُهمنا هذا اليوم؟
لأن تجاهل هؤلاء العلماء يُعيد إنتاج صورة نمطية عن العرب والمسلمين كغير منتجين للعلم. استعادة أسمائهم وإنجازاتهم ليست مجرد فخر، بل هي إعادة بناء لسردية تُثبت أننا كنّا وما زلنا قادرين على الإبداع العلمي.
راجع:
الاستعمار العلمي وطمس التراث
نهب المخطوطات وتهميشها
خلال الحقبة الاستعمارية، لم يكن الاستيلاء مقتصرًا على الأراضي والثروات، بل امتد ليشمل المعرفة. آلاف المخطوطات العلمية والفلسفية نُهبت من مكتبات بغداد، القاهرة، قرطبة، ودمشق، ونُقلت إلى أوروبا. هناك، خضعت للترجمة والتحليل، ثم أُعيد تقديمها في سياق يُبرز دور الباحث الأوروبي ويُهمّش الأصل الشرقي.
في كثير من الحالات، تم اقتباس أفكار كاملة من تلك المخطوطات دون الإشارة إلى مصدرها، بل نُسبت إلى علماء غربيين باعتبارهم "المكتشفين"، بينما كان دور العلماء المسلمين مجرد خلفية تاريخية تُذكر على الهامش، إن ذُكرت أصلًا.
تغييب الرموز العلمية في الإعلام الغربي
الإعلام الغربي، من الأفلام الوثائقية إلى الكتب المدرسية، نادرًا ما يُبرز العلماء المسلمين كروّاد علم حقيقيين. يتم تصوير الحضارة الإسلامية على أنها "ناقلة" للعلم اليوناني، لا "مُنتجة" له، رغم أن كثيرًا من المفاهيم العلمية الحديثة وُلدت في بغداد ودمشق قبل أن تصل إلى باريس أو لندن.
هذا التغييب لا يقتصر على الأسماء، بل يمتد إلى المفاهيم. فمثلًا، فكرة المنهج العلمي التجريبي التي طبّقها ابن الهيثم تُنسب غالبًا إلى "فرنسيس بيكون"، رغم أن الأخير جاء بعده بقرون. هذا التحيّز في السرد يُعيد تشكيل الوعي الجمعي، ويُرسّخ صورة مشوّهة عن من يستحق أن يُعتبر "مؤسسًا" أو "رائدًا".
لماذا يُهمنا هذا اليوم؟
لأن آثار الاستعمار المعرفي لا تزال قائمة: في مناهجنا، في الإعلام، وفي نظرتنا لأنفسنا. كشف هذا الطمس هو بداية لاستعادة السيطرة على سرديتنا العلمية، وبناء منظومة تعليمية تُنصف تاريخنا وتُحفّز مستقبلنا.
راجع:
المصادر التي اعتمدت العلوم قاعدة للتصنيف
مصادر التاريخ الإسلامي ومناهج البحث فيه
أمثلة عملية على التحيّز العلمي
قوانين نيوتن – إعادة بناء أم سرقة؟
تُعتبر قوانين الحركة الثلاثة التي وضعها إسحاق نيوتن حجر الأساس في الفيزياء الكلاسيكية، لكن قليلًا ما يُذكر أن مفاهيم الجاذبية، التسارع، والزمن كانت مطروحة قبل نيوتن بقرون في أعمال علماء مثل البيروني وابن سينا. هؤلاء العلماء ناقشوا العلاقة بين الكتلة والجاذبية، وقدموا نماذج أولية لفهم الحركة، لكنها لم تُصغ في قالب رياضي كما فعل نيوتن.
السؤال هنا ليس عن عبقرية نيوتن، بل عن تجاهل السياق التاريخي الذي مهّد له الطريق. هل كان نيوتن "مؤسسًا" أم "مُعيد بناء"؟ وهل يُمكن فصل إنجازه عن الإرث العلمي الذي سبقه؟ هذا النوع من التحيّز يُعيد إنتاج صورة مفادها أن العلم يبدأ فقط عندما يُدوّن في أوروبا.
علم الفلك – من مراغة إلى كوبرنيكوس
مرصد مراغة في إيران، الذي تأسس في القرن الثالث عشر، كان مركزًا فلكيًا متقدمًا، ضم علماء مثل نصير الدين الطوسي الذين طوروا نماذج رياضية لحركة الكواكب. هذه النماذج أثّرت لاحقًا في أعمال كوبرنيكوس، الذي يُعتبر مؤسس النموذج الشمسي الحديث.
بعض الدراسات الغربية الحديثة تُقر بأن كوبرنيكوس استخدم نماذج الطوسي دون الإشارة إليه، مما يُثير تساؤلات حول "الاقتباس غير المنسوب" في التاريخ العلمي. هل كان ذلك تجاهلًا أم تعمّدًا؟ وهل يُمكن اعتبار النموذج الكوبرنيكي ابتكارًا خالصًا؟
المنهج العلمي – من ابن الهيثم إلى بيكون
ابن الهيثم طبّق المنهج العلمي التجريبي في القرن الحادي عشر، مستخدمًا الملاحظة، الفرضية، التجربة، والاستنتاج. هذا النموذج يُشبه تمامًا ما يُنسب لاحقًا إلى فرنسيس بيكون في القرن السابع عشر، الذي يُعتبر "أب المنهج العلمي" في الغرب.
الفرق أن بيكون كتب بالإنجليزية، ونُشرت أعماله في أوروبا، بينما ظل تراث ابن الهيثم حبيس المخطوطات العربية. هذا التفاوت في الوصول لا يُبرر التهميش، بل يُظهر كيف يُعاد تشكيل التاريخ العلمي بناءً على من يملك أدوات النشر والتأثير.
لماذا يُهمنا هذا اليوم؟
لأن هذه الأمثلة تُظهر أن التحيّز ليس نظريًا، بل عملي ومؤثر في تشكيل الوعي العلمي العالمي. إذا لم نُطالب بالاعتراف بسلسلة الأفكار التي سبقت "الاكتشافات الغربية"، سنبقى في موقع المتلقي، لا المشارك.
كيف نعيد الاعتبار للتاريخ العلمي الحقيقي؟
توثيق المخطوطات وإتاحتها رقمياً
الخطوة الأولى نحو استعادة العدالة المعرفية تبدأ بتوثيق المخطوطات العلمية التي أُنتجت في الحضارات الإسلامية والشرقية. يجب رقمنتها، ترجمتها، وإتاحتها عبر منصات مفتوحة، بحيث تُصبح مرجعًا عالميًا لا يُمكن تجاهله.
منصات مثل المكتبة الرقمية العالمية ومكتبة الكونغرس بدأت بالفعل في هذا الاتجاه، لكن الجهد العربي لا يزال محدودًا. يجب إنشاء قواعد بيانات تربط بين الاكتشافات الأصلية ومن تبنّاها لاحقًا، وتُظهر التسلسل الحقيقي للأفكار العلمية.
إصلاح المناهج التعليمية
لا يمكن الحديث عن تصحيح السردية دون مراجعة المناهج التعليمية. يجب إدراج العلماء المسلمين والشرقيين في كتب العلوم بشكل متوازن، ليس فقط كـ"مقدمة تاريخية"، بل كجزء أساسي من تطور المفاهيم العلمية.
إعادة صياغة سرديات الاكتشافات لتُظهر التسلسل الحقيقي للأفكار، وتُبرز كيف ساهمت الحضارات المختلفة في بناء المعرفة، يُعد خطوة جوهرية نحو وعي علمي عالمي أكثر عدالة.
إنتاج محتوى إعلامي بديل
الإعلام الرقمي اليوم يُتيح فرصة ذهبية لكسر احتكار السرد الغربي. من خلال إنتاج أفلام وثائقية، مقاطع يوتيوب، ومقالات مثل هذه، يُمكن إعادة تشكيل الوعي العام، وتقديم رواية علمية أكثر شمولًا.
مدونتك "من كل بحر قطرة" تُعتبر نموذجًا لهذا النوع من الإعلام البديل، حيث تجمع بين الجرأة، العمق، والطرح النقدي. دعم مثل هذه المنصات يُعد استثمارًا في مستقبل معرفي أكثر إنصافًا.
لماذا يُهمنا هذا اليوم؟
لأننا نملك الأدوات اليوم: الرقمنة، الإعلام البديل، والمجتمعات العلمية الناشئة. إعادة الاعتبار للتاريخ العلمي ليست مهمة مستحيلة، بل مشروع قابل للتنفيذ، يبدأ من مدونات مثل "من كل بحر قطرة"، وينتشر عبر الوعي الجمعي.
في الختام:
حين يُستعاد المجد العلمي من تحت الركام
ليس الهدف من هذا المقال التشكيك في إنجازات الغرب، بل إعادة التوازن إلى سردية علمية اختلت بفعل التحيّز، الاستعمار، والإقصاء المتعمد. إن الاعتراف بفضل العلماء المسلمين والشرقيين ليس مجرد تصحيح تاريخي، بل هو استعادة لعدالة معرفية طال غيابها.
العلم لا يعرف حدودًا جغرافية أو عرقية، ولا يجب أن يُكتب بلغة المنتصر فقط. بل هو نتاج تراكمي لحضارات متعددة، ساهمت كل منها بلبنة في صرح المعرفة الإنسانية. إن إعادة الاعتبار لهذا التاريخ ليست ترفًا، بل ضرورة لفهم حاضرنا وبناء مستقبل أكثر إنصافًا.
في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وتتغير فيه مراكز القوة، حان الوقت لنُعيد قراءة التاريخ العلمي بعدسة أكثر شمولًا، ونُعيد الاعتبار لمن ساهموا في تشكيله، لا لمن كتبوه فقط.
ما رأيك؟ هل تعتقد أن التاريخ العلمي بحاجة لإعادة كتابة؟ شاركنا رأيك في التعليقات، وساهم في نشر هذا المقال لتصل الحقيقة إلى من يستحق أن يعرفها.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
ضع تعليقك وشاركنا رايك